الخروج من التاريخ!!!

طلال الغوّار

ما يحدث في العراق، ومنذ الأيام الأولى للاحتلال، وصولا إلى عامه الخامس، من عمليات سطو ونهب وتخريب للمتاحف والمواقع الآثارية، تشكل سابقة خطيرة في التاريخ الإنساني، وأن هذه الأعمال تعد من أبشع صور التدمير، في المنظور المعرفي والحضاري والأخلاقي، فقد تعرضت (13) متحفا عراقيا في اليوم الأول للاحتلال، إلى عمليات السطو ونهب المحتويات الآثارية، ومن بينها المتحف العراقي في بغداد، والذي يحوي وحده على (150) ألف من اللقى والقطع الآثارية، ثم استمرت هذه العمليات لتشمل المواقع الآثارية المنتشرة في أرض العراق، وتحديدا في جنوبه، فالإحصائيات تشير إلى تعرض أكثر من ألف موقع آثاري إلى السرقة والنهب، حيث يوجد في العراق أكثر من (10000) موقعا، ففي مدينة الناصرية وحدها (840) موقعا أثريا تمت سرقته وترحيل أغلب المسروقات إلى خارج العراق، ومن المؤسف حقا إن من بين عصابات السراق ممن كانوا في الماضي من الموظفين والمنقبين في الدوائر الآثارية استثمرتهم هذه الأيدي المأجورة لمعرفتهم بالأماكن الآثارية وطرائق التنقيب.

إن تعرض تاريخ بلاد الرافدين ومعالمه الحضارية إلى الدمار والتخريب والسرقة، يجري كل ذلك على مرأى ومسمع قوات الاحتلال، بل هي الأخرى تساهم في عمليات التدمير والتخريب وبشكل سافر ليلحقوا بالمواقع الآثارية دمارا لا يمكن إصلاحه، كما هو حاصل اليوم في مدينة بابل الأثرية، تدمر معالم هذه المدينة وتخرّب تحت سرف دباباته وعرباته العسكرية وعبث جنوده، بالرغم من إن تواجدهم في هذه المنطقة وإقامة قاعدة لهم فيها كان بحجة الحماية والحفاظ على المواقع الأثرية.

إن السطو على هذه المواقع ونهب ما فيها، لا يمكن أن تفسر بأنها حالة عرضية للاحتلال فحسب، وإنما يجب أن تفهم أنها نتاج مدروس ومهيأ له مسبقا، ويندرج ضمن مخطط كبير يهدف إلى انتزاع العراق من تاريخه بتضافره مع الممارسات الأخرى التي يقوم بها المحتل أو تحت رعايته وعلى كافة الأصعدة، وصولا إلى سلخه عن عمقه التاريخي والحضاري وتدمير هويته، فسرقة هذه الآثار من المتاحف والمواقع الأثرية، والتي تجسد رؤية إنسان وادي الرافدين إلى الحياة وتمثل استجابته لمتطلباتها وجوابا لأسئلتها، وقيمه الروحية والإنسانية، وتوثق مسيرته الحياتية وإبداعاته المختلفة عبر التاريخ وأن انتزاعها من وطن هذا الإنسان الذي أبدعها ليست موجهة إلى الإنسان العراق فقط بل إلى الإنسان العربي بغية إلغاء تاريخه وإفراغ ذاكرته.

لقد كان للكيان الصهيوني اليد الطولى في دفع ودعم جيوش العصابات والسرّاق إلى أرض العراق، فالتقارير تشير إلى ترحيل الكثير من اللقى والقطع الأثرية المهمة إلى هذا الكيان، ليؤكد حقيقة لا يمكن تجاهلها أبدا، وهي إن تشويه وتقويض تاريخ العراق يشكل بعدا رئيسا من أبعاد المشروع الصهيوني التوسعي، الذي يستهدف المنطقة ولا يقتصر على تغير الجغرافية السياسية فحسب بل يشمل أيضا تغير التاريخ والهوية ليشكل مع المشروع الأمريكي مشروعا موحدا بحكم الترابط العضوي بين (اسرائيل) والولايات الأمريكية.

وإذا ما رجعنا إلى الوراء، نجد إن سرقة تاريخ الأخر، ليس ظاهرة جديدة نفاجأ بها، فما يحدث اليوم على يد عصابات النهب والسرقة لآثار وادي الرافدين والمدعومة من الصهاينة وغيرهم، نجد مرجعيته في تاريخ أسلافهم، حينما سرقوا من آداب المنطقة العربية الكثير، فأغلب الأساطير والأحداث التي نقرأها في (التوراة) و(التلمود) ليس إلا سرقة بشكل واضح ويكاد بعضها حرفيا من ميثيولوجيا المنطقة، وخصوصا أساطير الخلق والتكوين والطوفان وغيرها، والتي وردت في الآداب السومرية والبابلية والأوغاريتية والمصرية ومن نتائج عملية السطو هذه كتبت اغلب أسفار (التوراة)، في الوقت الذي كانت فيه البنية الأصلية ونصوصها مدفونة في الأرض في مدن أور وبابل وأوغاريت وفي المواقع الموجودة في مصر، وحينما بدأ التنقيب وعمليات الاكتشاف للآثار في القرن التاسع عشر والقرن العشرين ظهرت الحقائق لتكشفت بشكل واضح وجلي عن أخطر وأكبر جرائم النهب والسرقة والتزوير في التاريخ، ومدعومة بالبراهين والأدلة الدامغة.

وإذا ما قارنا بين عمليات السطو والسرقة للآثار العراقية اليوم من قبل هذه العصابات وخصوصا العصابات المدعمة (إسرائيليا) وترحيل هذه المسروقات إليها كما ذكرت اغلب التقارير وبين سرقات أسلافهم قبل أكثر من ألفي عام، يقودنا السؤال: ألا يمكن لهذه الآثار المسروقة، أن تزوَّر وتجري عمليات التشويه للحقائق التاريخية على أيدي الصهاينة الجدد، وقد تجير (توراتيا وتلموديا) وتؤل بما يخدم دعاواهم المضللة؟؟، وذلك لسبب واحد هو أنهم يفتقدون إلى التاريخ المادي أو التاريخ الموثق في أثر مادي، فهم لم يعثروا أو يجدوا أثرا ماديا في أرض فلسطين أو غيرها يدعم ما جاء في ما هم يعتقدون به أو يدعم حقهم المزعوم في هذه الأرض العربية.

إن هذه الآثار وإن كانت من الحجر والطين، فأن لها معانيها ودلالاتها التاريخية والإنسانية والفنية، وخصوصا تلك الآثار التي حفرت عليها الكلمة لتضفي عليها قيمة أبداعية عظيمة، لتحمل معها سر بقائها وخلودها، وسر تواصلنا الروحي والتاريخي معها، وما يسعى الأعداء له اليوم هو قطع هذا التواصل ومن ثم إخراج العراق بل والمنطقة العربية من التاريخ، ليصلوا إلى حالة التمركز فيها وتدمير هويتها.

[email protected]